أخبار

أبعاد التنافس الدولي في القطب الشمالي

خلال العشر سنوات الماضية، وتحديداً منذ العام 2013، تصاعدت حدة التنافس الدولي في منطقة القطب الشمالي، التي تضم كلاً من كندا وروسيا وأميركا والنرويج والدانمارك وفنلندا، وارتبط هذا التصاعد بالعديد من الأبعاد الأساسية المتشابكة والمتداخلة، بيئياً ومناخياً وسياسياً واقتصادياً واستراتيجياً.

ومن بين هذه الأبعاد:

البعد الأول، المناخي والبيئي، حيث يشكّل المحيط المتجمد الشمالي حوالي 6% من مساحة الأرض، ويمتد على مساحة 21 مليون متر مربع منها 40% عبارة عن أراضٍ خاضعة للقوى الدولية المتنافسة في المنطقة، والثلث الآخر يخضع للدول المحيطة به وذلك تحت بند “الجُرف القاري” لهذه الدول، ثم الجزء الباقي يعتبر مياها دولية؛ لا سيادة عليها.

وقد ذكرت وكالة الفضاء الأميركية (ناسا) والمركز الأميركي للثلوج والجليد، أنه خلال الفترة من 2012 إلى 2022 تقلصت مساحة الجليد إلى 3.74 ملايين كيلومتر مربع مقارنة بحجم تراجع بلغ 2.48 مليون متر مربع خلال الفترة ما بين 1981 و2010. وهو ثاني أكبر تراجع في مساحة الجليد منذ بداية تسجيل مستوى الثلوج في المحيط سنة 1970.

البعد الثاني، الصراع على مصادر الطاقة، فقد ذكر المعهد الأميركي للدراسات الجيولوجية أن القطب الشمالي يحتوي نحو 90 مليار برميل من النفط وأكثر من 1.669 تريليون متر مكعب من الغاز الطبيعي، وأكثر من 44 مليار برميل من الغاز الطبيعي المسال، تتركز في 84% من المناطق القريبة من الجرف القاري للدول المحيطة، وهذه الأرقام تعادل 22% من النفط غير المستخرج في العالم.

وتعد كندا وروسيا من أكثر الدول المستفيدة من التنقيب عن النفط والغاز في المنطقة، حيث تستخرج كندا الغاز والنفط من بحر “بيوفورت” شمال ألاسكا، وتستخرج روسيا النفط والغاز من شرق سيبيريا وبحر “بارنتس”، واكتشفت عمليات تنقيب الدولتين أكثر من 400 حقل للنفط والغاز. ويستخرجان حوالي 2.6 مليون برميل من النفط الصخري يوميا.

أما النرويج، فعارضت خلال العقد الماضي عمليات التنقيب في الجرف القاري الخاص بها في القطب الشمالي لأسباب بيئية، لكن ارتفاع أسعار الطاقة وتزايد الطلب على الغاز دفعها لتغيير سياستها، وقررت مع بداية العام 2023 منح تراخيص التنقيب للشركات العالمية لاستغلال حقوق النفط والغاز الموجودة في منطقتها.

البعد الثالث: الثروات الطبيعية، ويشكل هذا البعد أحد أهم أبعاد التنافس الدولي في القطب الشمالي، وخاصة ما يتعلق بالصراع على المعادن الثمينة؛ وخصوصا التي يتم استخدامها في تصنيع السيارات الكهربائية وتصنيع أجهزة الطاقات المتجددة، إضافة للحديد والزنك والذهب والفضة والفحم والأحجار الكريمة، وتُقدّر قيمة المعادن الموجودة في المنطقة بأكثر من 2 تريليون دولار، وتمتلك شبه جزيرة “كولا” الموجودة في أقصى الشمال الروسي، كميات كبيرة من هذه المعادن. أما الجرف القاري الكندي، فيحتوي على معادن كثيرة منها الذهب والنحاس واليورانيوم. ونظراً لأن الصين تتحكم في حوالي 90% من الإنتاج العالمي لهذه المعادن وتستخدمها كورقة ضغط في مواجهة الدول الغربية والولايات المتحدة الأمريكية، فقد تصاعد التنافس الدولي حول معادن القطب الشمالي لمواجهة هذه الورقة الصينية.

البعد الرابع: الصراع على الحدود والنفوذ، حيث تطالب روسيا بتوسيع مساحة جرفها القاري إلى أكثر من 703 آلاف متر مربع، وتوجد مناطق مما تطالب بها روسيا تتداخل مع الجرف القاري لكل من كندا وجزيرة جرينلاند التابعة للدانمارك، وبداية من عام 2014 دخلت روسيا وكندا في صراع مباشر لإثبات أحقيتهما في تمديد مساحة الجرف القاري الخاص بهما؛ حيث أرسلت كندا كاسحات جليد لجمع المعلومات والتفاصيل وتعزيز الأسانية التي تدعم موقفها المطالب بمساحة 1.2 مليون متر مربع في المنطقة، وفي عام 2015، قدّمت روسيا طلباً رسمياً للأمم المتحدة لتوسيع حدود جرفها بحيث يضم جبل “لومونوسوف” الغني بالنفط الذي تطالب كندا ضمه أيضاً.

وفي إطار الرؤية الاستراتيجية الروسية، يُعَد القطب الشمالي جزءاً من التاريخ والثقافة الروسية؛ لأنها أول من أرسلت بعثات استكشافية إليه. وتمتلك نصف مساحته وعدد سكانه، وتسعى إلى الهيمنة على المنطقة، مستغلةً تفوقها الاستراتيجي فيها؛ حيث تمتلك 40 كاسحة جليدية، و34 غواصة بحرية، وأسطولاً كاملاً، ولها 7 قواعد عسكرية، ونشرت أنظمة رادار ودفاع صاروخي متطوِّرة، قادرة على استهداف مقاتلات وصواريخ وسفن، مقابل كاسحة واحدة فقط للولايات المتحدة، فضلاً عن البعثات العلمية الروسية المقيمة بالمنطقة.

ومن جانبها، أعلنت الصين أنها دولة شبه قطبية شمالية، وأن المنطقة ليست ضمن الحدود الإقليمية للدول المشاطئة للقطب الشمالي فقط؛ لأنها ملك الإنسانية جمعاء، واستثمرت الصين نحو 90 مليار دولار بين عامي 2012 و2017 في مشروعات تستهدف المنطقة، وأصدرت وثيقة سياسة الكتاب الأبيض لحماية البيئة ودعم الحوكمة وأسس البحث العلمي في المناطق القطبية، وفي يناير 2018 أعلنت عن مشروع طريق الحرير القطبي باعتباره جزءاً من مبادرة الحزام والطريق، ووقَّعت على عدة صفقات مع روسيا حول التنمية المتكاملة لتلك المنطقة. وأسست أول كاسحة جليدية تعمل بالطاقة النووية في القطب الشمالي عام 2020، بهدف الاستفادة من موارد الطاقة والثروات الطبيعية في المنطقة، وإرساء نفوذها بالقطب الشمالي باعتبارها من القوى الكبرى المؤثرة فيه.

وفي المقابل، وتحديداً في مارس 2021، أعلنت الولايات المتحدة استراتيجية كبرى لما أسمته “استعادة الهيمنة في القطب الشمالي” وتشمل عدداً من الأهداف والسياسات، منها: إنشاء مقر تشغيلي متعدد المجالات، مع ألوية قتالية مدرَّبة ومجهَّزة، وتحسين الاستعداد في العتاد؛ لتنفيذ عمليات موسَّعة بالمنطقة، وتحسين التدريب الفردي والجماعي، وتحسين نوعية الحياة للجنود والمدنيين والعائلات المقيمين في المنطقة.

وفي منتصف يونيو 2022، أعلنت روسيا عن بدء تنفيذ مشروع “سنيجينكا للطاقة المتجددة في القطب الشمالي”، وذلك بعد تعليق عضويتها في مجلس القطب الشمالي كجزء من العقوبات الغربية ضدها بعد غزوها لأوكرانيا. وأكدت أن قرارات المجلس غير شرعية دون مشاركتها.

وفي إطار هذه الاعتبارات، وتلك الأبعاد، يمكن القول إن القطب الشمالي سيصبح خلال السنوات العشر القادمة ساحة من ساحات الحرب الباردة الجديدة بين كل من روسيا والصين والولايات المتحدة الأمريكية، ومع وجود فوارق كبيرة حالياً لصالح روسيا الاتحادية في هذه المواجهة، إلا أن هذا لا يعني قدرتها على الحسم المباشر، في ظل التداعيات التي تعاني منها على خلفية الحرب الأوكرانية، وفي ظل التمدد المتصاعد لحلف الناتو في معظم الدول المطلة على القطب الشمالي.

المصدر : صحيفة أحوال أوروبا